اخر الاخبار

الحمل والإنجاب صراع هائل… كيف فقدت امرأة من غزة جنينها تحت الحصار الإسرائيلي؟

لم تستطع ياسمين صيام، وهي حامل في شهرها السابع تقريباً، النوم، إذ تعيش ياسمين في مخيم مزدحم في غزة، تهتز فيه باستمرار جراء القصف الإسرائيلي. لم تجد طعاماً مناسباً، ولم تأكل لحوماً لأكثر من شهر. كانت ضعيفة، وتفقد وزنها، وكانت تذهب إلى الأطباء كل يوم. لم يكن لديهم الكثير ليفعلوه.

في إحدى ليالي هذا الشهر، اجتاحها الألم. كانت قلقة من أن المخاض قد بدأ، لكنها كانت خائفة جداً من إطلاق النار لدرجة أنها لم تستطع مغادرة خيمتها. انتظرت السيدة حتى الفجر لتمشي إلى أقرب عيادة متنقلة. أخبرها المسعفون بأن تذهب إلى مستشفى ناصر، على بعد أميال.

كان على الأم أن تستقل عربة كارو يجرها حمار، تهتز من كل مطب في الطرق المدمرة. ولم تجد الفتاة البالغة من العمر 24 عاماً سوى جدار تتكئ عليه طوال ساعات انتظار الطبيب، ويهدّها الإعياء.

ياسمين صيام تخضع لفحص ما قبل الولادة في مستشفى ناصر في خان يونس (أ.ب)

وأظهرت الموجات فوق الصوتية أن طفلها بخير. كانت صيام تعاني من التهاب في المسالك البولية، وكانت تعاني من نقص الوزن: 57 كيلوغراماً (125 رطلاً)، أي أقل بمقدار 6 كيلوغرامات (13 رطلاً) عن الأسابيع السابقة. وصف لها الطبيب دواءً، وأخبرها بما يفعله كل طبيب آخر: تناولي طعاماً أفضل.

وتقول صيام لوكالة «أسوشييتد برس» في حوار مطلع الشهر الجاري، وهي تلهث بعد عودتها إلى خيمتها خارج مدينة خان يونس الجنوبية: «من أين أحصل على الطعام؟ لست قلقة على نفسي. أنا قلقة على ابني. سيكون الأمر مريعاً إذا فقدته».

ارتفاع حالات الإجهاض

ومع تدمير غزة، ترتفع حالات الإجهاض. أصبح إجهاض حمل صيام المضطرب أمراً طبيعياً في غزة. لقد جعلت الحرب الإسرائيلية -التي استمرت 18 شهراً والتي دمرت القطاع- الحمل والولادة أكثر خطورة، بل ومخاطرة مميتة بالنسبة للنساء الفلسطينيات وأطفالهن، وفق الوكالة. وازداد الأمر سوءاً منذ 2 مارس (آذار)، عندما قطعت إسرائيل جميع المواد الغذائية والأدوية والإمدادات عن أكثر من مليوني شخص في غزة.

وتعد اللحوم والفواكه والخضراوات الطازجة شبه معدومة. والمياه النظيفة نادرة. ويقطع النساء الحوامل من بين مئات الآلاف ميلاً بحثاً عن ملاجئ جديدة بعد أوامر الإخلاء الإسرائيلية المتكررة. تعيش الكثيرات منهن في خيام أو مدارس مكتظة وسط مياه الصرف الصحي والقمامة.

اقراء ايضا  الصناعة والثرورة المعدنية تطلق ترخيص "استشاري مطور مصانع"

ياسمين صيام في خيمتها في خان يونس بقطاع غزة (أ.ب)

ووفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان، تعاني ما يصل إلى 20 في المائة من النساء الحوامل في غزة، والبالغ عددهن 55000 امرأة، من سوء التغذية، وتواجه نصفهن حالات حمل عالية الخطورة. في فبراير (شباط) ومارس، وُلد ما لا يقل عن 20 في المائة من المواليد الجدد قبل أوانهم، أو يعانون من مضاعفات، أو سوء تغذية.

ومع نزوح السكان، وتعرضهم للقصف، يستحيل الحصول على إحصاءات شاملة عن حالات الإجهاض، وولادة جنين ميت. تُظهر السجلات في مستشفى ناصر بخان يونس أن حالات الإجهاض في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير كانت ضعف ما كانت عليه في نفس الفترة من عام 2023.

ووثّقت الدكتورة ياسمين شنينة، مشرفة القابلات في منظمة «أطباء بلا حدود» بمستشفى ناصر، 40 حالة إجهاض أسبوعياً في الأسابيع الأخيرة. وقد سجّلت وفاة خمس نساء شهرياً أثناء الولادة، مقارنةً بنحو حالتين سنوياً قبل الحرب. وقالت: «لسنا بحاجة إلى انتظار التأثير المستقبلي. المخاطر آخذة في الظهور الآن».

حب في زمن الحرب

وبالنسبة لصيام وعائلتها، كان حملها -بعد زواج مضطرب في زمن الحرب– ووصفت الوكالة زواجها بأنه «فرحة نادرة». وبعد نزوح الأسرة من مدينة غزة، انتقلت ثلاث مرات قبل أن تستقر في مدينة الخيام الممتدة عبر منطقة المواصي الساحلية القاحلة. وفي أواخر الصيف الماضي، تناولت وجبة طعام مع الجيران. وقد أُعجب بها شاب من الخيمة المقابلة.

في اليوم التالي، طلب حسام يد ياسمين للزواج. رفضت في البداية. قالت: «لم أتوقع الزواج في ظل الحرب. لم أكن مستعدة للقاء أحد». ولم يستسلم حسام. اصطحبها في نزهة على شاطئ البحر. أخبر بعضهما البعض عن حياتهما. قالت: «قبلت».

في 15 سبتمبر (أيلول)، زيّنت عائلة العريس خيمتها. شاهدت صديقاتها المقربات من مدينة غزة، والمنتشرات في أنحاء القطاع، حفل الزفاف عبر الإنترنت. وفي غضون شهر، حملت ياسمين صيام.

جيلان زروق البالغة من العمر ثلاثة أشهر تنام في مخيم مؤقت للنازحين الفلسطينيين في المواصي على مشارف خان يونس في جنوب قطاع غزة (أ.ب)

ويعتبر الطفل المنتظر عزيزاً لأسرتها، فكان لوالدتها أحفاد من ابنيها، لكنها كانت تتوق لطفل من ابنتيها. كانت شقيقة صيام الكبرى تحاول الحمل منذ 15 عاماً. أرسلت والدتها وشقيقتها -اللتان عادتا الآن إلى مدينة غزة- مستلزمات الطفل.

ومنذ البداية، عانت صيام من أجل الحصول على تغذية سليمة، معتمدة على الطعام المعلب. بعد بدء وقف إطلاق النار في يناير، انتقلت هي وحسام إلى رفح. في 28 فبراير، تناولت وجبة نادرة: دجاجة، تقاسمتها مع أصهارها. كانت هذه آخر مرة تأكل فيها لحماً. وبعد أسبوع، سار حسام لأميال باحثاً عن دجاج. عاد خالي الوفاض.

«حتى الأساسيات مستحيلة»

سوّت إسرائيل جزءاً كبيراً من غزة بالأرض في حربها الجوية والبرية، وأدت الحرب لقتل أكثر من 51000 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وفقاً لوزارة الصحة في غزة.

اقراء ايضا  ناقلًا تحيات القيادة.. "الجبير" يمثّل المملكة في حفل تنصيب رئيس إندونيسيا

وفي غزة، يُعدّ الحمل صراعاً هائلاً. إذ لا يتعلق الأمر بكمية الطعام فحسب، كما قالت روزالي بولين، من «اليونيسف»، «بل يتعلق أيضاً بالتنوع الغذائي، وحقيقة أنهم يعيشون في ظروف قاسية، وغير صحية، ينامون على الأرض، وينامون في البرد، ويعلقون في هذه الحالة الدائمة من التوتر الشديد».

يحمل أحد العاملين في مجال الصحة بالمستشفى جثمان الطفلة سيلا زيدان البالغة من العمر 15 يوماً والتي توفيت بسبب تعفن الدم بعد أيام قليلة من وفاة شقيقتها التوأم في أعقاب ولادة ياسمين زقوت المبكرة للتوأم في مستشفى ناصر في خان يونس (أ.ب)

لا تزال تسعة مستشفيات تعمل من أصل 14 كانت تقدم خدمات صحة الأم قبل الحرب، وإن كان ذلك بشكل جزئي فقط، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان. ونظراً لأن العديد من المرافق الطبية قد هُجرت بسبب الحرب، أو اضطرارها لإعطاء الأولوية للمرضى ذوي الحالات الحرجة، فإن النساء غالباً لا يحصلن على فحوصات تكشف المشكلات في مرحلة مبكرة من الحمل، كما قالت كاتي براون، من منظمة «أطباء بلا حدود». ويشير صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن ربع حالات الولادة، التي تبلغ نحو 130 حالة ولادة يومياً في شهري فبراير ومارس، تطلبت عمليات جراحية. وقالت براون: «حتى الأساسيات مستحيلة».

في ظل الحصار، نفدت أكثر من نصف أدوية رعاية الأمومة والمواليد الجدد، بما في ذلك أدوية تنظيم النزيف، وتحفيز المخاض، وفقاً لوزارة الصحة. الحفاضات نادرة. يقول عمال الإغاثة إن بعض النساء يُعدن استخدامها، مما يؤدي إلى تقلبها، وذلك يؤدي إلى التهابات جلدية حادة.

«تكتيك التجويع»

وتقول إسرائيل إن الحصار يهدف إلى الضغط على «حماس» لإطلاق سراح الرهائن المتبقين. وتصفه جماعات حقوق الإنسان بأنه «تكتيك تجويع» يعرض جميع السكان للخطر، وجريمة حرب محتملة.

في قسم الولادة بمستشفى ناصر، قال الدكتور أحمد الفرا إن الأمور تتجه من سيئ إلى أسوأ. إذ داهمت القوات الإسرائيلية المستشفى في أوائل عام 2024، مدعية أنه يؤوي مقاتلين من «حماس». ودُمرت حاضنات في أحد المستودعات. أُعيد بناء قسم الولادة ليصبح أكبر مستشفى في غزة وأفضلها تجهيزاً لحالات الطوارئ. ومنذ أن انتهكت إسرائيل وقف إطلاق النار الذي استمر شهرين في 18 مارس، امتلأ المستشفى بالجرحى.

أطباء يزنون طفلاً فلسطينياً في عيادة «أطباء بلا حدود» في المواصي بالقرب من خان يونس في جنوب قطاع غزة (أ.ب)

ويحتاج ما يصل إلى 15 طفلاً من الخُدج في المرة الواحدة إلى أجهزة تنفس صناعي، لكن المستشفى لا يملك سوى جهازي ضغط مجرى الهواء الإيجابي المستمر (CPAP) للحفاظ على تنفس الأطفال الخدج. ويُوضع بعضهم على أجهزة تنفس للبالغين، مما يؤدي غالباً إلى الوفاة، وفقاً للفرا.

ووفقاً للأمم المتحدة، هناك عشرون جهاز ضغط مجرى الهواء الإيجابي المستمر خارج غزة، غير قادرة على الدخول بسبب الحصار، إلى جانب 54 جهازاً بالموجات فوق الصوتية، وتسع حاضنات، ومستلزمات التوليد.

ويؤدي نقص لوازم التنظيف إلى جعل النظافة شبه مستحيلة. وبعد الولادة، غالباً ما تعاني النساء والمواليد الجدد الذين يُضعفهم الجوع من التهابات تُسبب مضاعفات طويلة الأمد، أو حتى الوفاة، وفقاً للفرا.

اقراء ايضا  60 ألف غرفة فندقية مرخصة بالمدينة المنورة

عدوى شديدة

نُقلت ياسمين زقوت على وجه السرعة إلى مستشفى ناصر في أوائل أبريل بعد أن أنجبت قبل أوانها فتاتين توأماً. توفيت إحداهما في غضون أيام، وتوفيت شقيقتها الأسبوع الماضي، وكلتاهما بسبب تعفن الدم. قبل الحرب، قال الفرا إنه ربما كان يرى طفلاً واحداً سنوياً مصاباً بالتهاب رئوي نخري، وهو عدوى شديدة تقتل أنسجة الرئة. وقال الفرا: «في هذه الحرب، عالجتُ 50 حالة». أزال أجزاءً من الرئتين لدى ما يقرب من نصف هؤلاء الأطفال. مات أربعة منهم على الأقل، مضيفاً أن من بين الجرحى نساء حوامل بانتظام.

إسلام شيخ العيد 27 عاماً وهي حامل في شهرها السادس تخضع لفحص بالموجات فوق الصوتية في عيادة «أطباء بلا حدود» في المواصي بالقرب من خان يونس في جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي سياق متصل، تحدث خالد السر، وهو جراح في مستشفى ناصر، عن علاج امرأة حامل في شهرها الرابع بعد غارة جوية في 16 أبريل. مزقت الشظايا رحمها. وقال إنه لا يمكن إنقاذ الجنين، وسيكون الحمل محفوفاً بالمخاطر لبقية حياتها. وأضاف أن اثنين من أطفالها كانا من بين 10 أطفال قُتلوا في الغارة.

وُلد الجنين ميتاً

وتحت وطأة ضغوط الحرب في شهرها السادس من الحمل، سارت صيام، وركبت عربة يجرها حمار لأميال عائدةً إلى خيمة في المواصي بعد أن أمرت إسرائيل بإخلاء رفح.

مع ازدياد ندرة الطعام، لجأت صيام إلى مطابخ خيرية، أو التكيات التي توزع وجبات من الأرز، أو المعكرونة. وبعد أن أصابها الضعف، سقطت كثيراً. تصاعد التوتر -بؤس الحياة في الخيمة، والانفصال عن والدتها، ورعب الغارات الجوية، والزيارات غير المثمرة للعيادات، وقالت لوكالة «أسوشييتد برس»، وهي تكاد تتوسل: «أتمنى لو يقول لي طبيب: وزنك جيد. أنا دائماً أعاني من سوء التغذية».

إسلام قشطة امرأة فلسطينية حامل تبلغ من العمر 30 عاماً تصل لإجراء فحص ما قبل الولادة في عيادة «أطباء بلا حدود» في المواصي بالقرب من خان يونس (أ.ب)

بعد ساعات من خوفها في 9 أبريل، كانت صيام لا تزال تعاني من الألم. قامت بزيارتها الخامسة للعيادة المتنقلة في غضون يومين. طلبوا منها الذهاب إلى خيمتها والراحة. بدأت تلاحظ نزيفاً. حملتها حماتها أثناء سيرهما إلى مستشفى ميداني في جوف الليل. في الساعة الثالثة صباحاً، قال الأطباء إنه لا يوجد شيء يمكنها فعله سوى الانتظار. وصلت والدتها من مدينة غزة. وبعد ثماني ساعات، وُلد الجنين ميتاً.

أخبرتها والدتها ألا تنظر إلى الطفل. قالت حماتها إنه جميل. أخذ زوجها ابنهما إلى القبر. بعد أيام، قالت والدتها إنها انهارت عندما رأت صوراً لها وهي حامل. لا تطيق رؤية أي شخص، وترفض اقتراحات زوجها بالتنزه على شاطئ البحر، حيث عقدا قرانهما. تتمنى لو يعود الزمن، ولو لأسبوع واحد فقط. وتقول: «سأضمه إلى قلبي، وأخفيه، وأتمسك به». تخطط السيدة المكلومة لمحاولة إنجاب طفل آخر.


الحمل والإنجاب صراع هائل… كيف فقدت امرأة من غزة جنينها تحت الحصار الإسرائيلي؟ المصدر:

زر الذهاب إلى الأعلى
إنضم لقناتنا على تيليجرام