الفن التشكيلي المعاصر تعرف على سماته ومميزاته ومحطات تطوره

يُعد الفن التشكيلي المعاصر من أبرز المجالات الفنية التي تُعبر عن تفاعل الإنسان مع بيئته وأفكاره بأساليب إبداعية متنوعة، وهو مجال واسع يثير الإعجاب ويجذب الأنظار لما يحمله من تعبيرات بصرية غنية ومؤثرة، ومن خلال هذا المقال، سنسلّط الضوء على هذا الفن المتجدد الذي لا يكتفي بالوسائط التقليدية، بل ينفتح على استخدام خامات متعددة وغير مألوفة ليمنح الفنان حرية أوسع في التعبير، ويضفي على العمل الفني طابعًا فريدًا. 

تعريف الفن التشكيلي المعاصر

يُعتبر الفن التشكيلي المعاصر أحد أبرز ملامح الإبداع البشري في العصر الحديث؛ إذ يتجاوز الحدود التقليدية للفن ليُعبّر عن قضايا الهوية والوعي الثقافي والانفعالات الإنسانية بأساليب جريئة ووسائط غير تقليدية، وهو فن بصري مثير يدعو المشاهد إلى التأمل ويلهمه برؤية الفنان الخاصة للعالم، فيحثّه على التفكير والتفاعل، بل وحتى السعي نحو فهم ذاته بشكل أعمق وأكثر صدقًا.

يسعى الفنانون المعاصرون إلى التعبير عن الواقع بكل تعقيداته وتحولاته المتسارعة، من خلال استكشاف موضوعات متعلّقة بالهوية الفردية والجماعية والسياسة والبيئة والوجود الإنساني، ولأجل إيصال رسائلهم، يلجأون إلى استخدام مجموعة واسعة من الخامات والمواد غير التقليدية مثل المعادن والخشب والزجاج والبلاستيك، بل وحتى العناصر التكنولوجية الحديثة، مما يمنح أعمالهم طابعًا فريدًا ومغايرًا.

غير أنّ فهم هذا النوع من الفن قد لا يكون سهلًا للبعض، إذ قد تبدو الأعمال المعاصرة للوهلة الأولى مجرد تركيبات من الأشكال أو ألوان عشوائية لا تحمل معنى واضحًا، لكن خلف هذه الظواهر البصرية تكمن رسائل رمزية وتجارب إنسانية عميقة يمكن سبر أغوارها من خلال التعرف على سياق العمل والتأمّل في تقنياته ومقارنة أساليبه بأعمال فنية أخرى تنتمي لنفس مدرسة الفن التشكيلي.

إن الانفتاح على أنماط الفن التشكيلي المعاصر يتطلّب من المشاهد توسيع مداركه البصرية وتقبّل التنوع في الرؤية الفنية، حيث لا تقتصر القيمة الجمالية للعمل على شكله الخارجي فحسب، بل تمتد لتشمل الفكرة والرسالة والخامة المستخدمة والعلاقة التي ينشئها العمل مع المتلقي.

الخامات والأدوات في الفن التشكيلي المعاصر

يمتاز الفن التشكيلي المعاصر بمرونته وتنوّع وسائطه؛ إذ لم يعد الفنان مقيدًا بخامات تقليدية محدودة، بل أصبح ينفتح على عالمٍ واسع من المواد التي تمنحه مساحة أكبر للتجريب والتعبير الفني الحر، ويُعد اختيار الخامات أحد أهم عناصر التكوين في العمل الفني لما له من دور في التأثير البصري والمعنوي على المتلقي، كما يُعكس أسلوب الفنان ورؤيته الخاصة، وفيما يلي مجموعة من الخامات والأدوات التي تُستخدم بكثرة في ممارسات الفن التشكيلي المعاصر، ومن المُستحسن أن تكون جزءًا من عدة أدوات لكل فنان معاصر:

• أقلام الجرافيت: تُستخدم للرسم التخطيطي الدقيق وتُعد أداة أساسية لرسم التفاصيل الأولية.
• الفحم: يمنح تدرجات غنية بين الأسود والرمادي، ويُستخدم للتعبير عن العمق والدراما في اللوحات.
• الكانفاس أو القماش المشدود: يُعد سطحًا مثاليًا للألوان الزيتية أو الأكريليك، ويعتبر أحد أكثر الخامات انتشارًا في الفن التشكيلي.
• فرش الرسم: تتعدّد أشكالها وأحجامها وتُستخدم لتوزيع الألوان بشكل إبداعي حسب الأسلوب والتقنية المستخدمة.
• أوراق الرسم المتخصصة: تختلف من حيث السماكة والملمس وتُختار بعناية تبعًا لنوع المادة المستخدمة.
• قطع الزجاج: تُستخدم في التكوينات التركيبية والمجسمات الفنية لإضفاء طابع بصري فريد يعكس الضوء واللون.
• أسطح الطلاء غير التقليدية: كالخشب والمعادن والبلاستيك، التي توسّع من نطاق التعبير الفني خارج الإطار الكلاسيكي.
• الممحاة الفنية: لا تُستخدم فقط للتصحيح، بل يمكن توظيفها لإضفاء تأثيرات ضوئية معينة في الرسم.
• الألوان بأنواعها: سواء الزيتية أو المائية أو الأكريليك، فهي روح العمل الفني وأداته التعبيرية الأهم.
• الأحجار والعناصر الطبيعية: تُدمج أحيانًا في أعمال النحت أو التركيبات المعاصرة لمنح العمل بُعدًا ماديًا ملموسًا.

الفن التشكيلي وأنواعه

يُعد الفن التشكيلي فضاءً واسعًا يتفرع إلى مجالات متنوعة تُتيح لكل فرد فرصةً لاكتشاف شغفه الفني وتطوير مهاراته ضمن النمط الذي ينسجم مع رؤيته وذوقه، وتتميّز هذه الفروع باختلاف الخامات المستخدمة وأساليب التعبير، مما يجعلها بيئة غنية للتجريب والابتكار، وفيما يلي أبرز أنواع الفن التشكيلي المعاصر وكيفية توظيف الخامات المتعددة في كل منها:

الرسم (Drawing and Painting)

يُعتبر الرسم من أقدم وأشهر أشكال الفن التشكيلي، إلا أنّه في شكله المعاصر تجاوز القواعد الكلاسيكية وأصبح يُمارَس باستخدام خامات وأسطح متعددة، ويمكن تنفيذ الأعمال الفنية على الورق أو القماش أو الزجاج أو حتى الجدران، باستخدام أدوات مثل أقلام الرصاص، والفحم، وأقلام التلوين، والطباشير، والألوان المائية والزيتية والأكريليك.

الطباعة الفنية (Printmaking)

يمثل هذا النوع من الفنون التشكيلية عملية نقل تصميم أو رسم من سطح إلى آخر باستخدام تقنيات خاصة مثل الحفر أو النقش، ويتم ذلك عبر الطباعة على القماش أو الورق أو الصفائح المعدنية، مع استخدام ألواح معدنية محفورة أو قوالب خشبية أو شاشات حريرية ودمج الألوان والخامات لخلق نسخ متكررة، لكنها تحتفظ بطابع فريد.

النحت (Sculpture)

يجسد فن النحت البُعد الثلاثي للعمل الفني، ويعتمد على تشكيل المواد في صورة مجسمات تعبيرية، ويستخدم النحاتون مجموعة متنوعة من الخامات، ومن أبرزها الخشب والمعادن والطين والأحجار والأقمشة والورق المعاد تدويره، مع اعتماد تقنيات الدمج والقص واللصق، كما أن فن النحت المعاصر لا يقتصر على التماثيل التقليدية، بل يفتح المجال لاستخدام الخامات الغريبة والمواد الصناعية لإيصال مفاهيم معاصرة.

محطات تطوّر الفن التشكيلي المعاصر من البدايات الأوروبية إلى الريادة العربية

شهد الفن التشكيلي المعاصر رحلة تحول طويلة ومليئة بالتحديات، مر خلالها بعدة مراحل مفصّلة أسهمت في تشكيل ملامحه الحالية، لم يكن ظهوره وتطوره وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تغيرات اجتماعية وثقافية وفكرية عميقة انعكست على أساليب التعبير الفني ومضامينه، وفيما يلي أهم المحطات التي مرّ بها هذا الفن:

المرحلة الأولى:

في بداياته، انطلقت شرارة الفن التشكيلي المعاصر في أوروبا، حيث كان الفنانون يُعبّرون من خلال أعمالهم عن واقعهم السياسي والاجتماعي المضطرب، فظهرت أعمال فنية تحمل رسائل قوية تتعلّق بالهوية والطبقية والتغيرات المجتمعية، وتميّزت هذه المرحلة بتأثر الفن بالبنية الفكرية للعصر وارتباطه الوثيق بقضايا المجتمع.

المرحلة الثانية:

مع مرور الوقت، بدأ الفن التشكيلي المعاصر يخرج من الإطار الأوروبي ليصل إلى دول العالم المختلفة، بما فيها الدول العربية، إلا أنّ التأثير الغربي ظل حاضرًا بقوة سواء في الأساليب أو المفاهيم الجمالية؛ حيث سادت المدارس الأوروبية في المعارض والمؤسسات الفنية، مما جعل الكثير من الفنانين خارج أوروبا يلتزمون بقوالب جاهزة سعيًا للاعتراف بأعمالهم فنيًا.

المرحلة الثالثة:

شكلت هذه المرحلة نقطة تحول حقيقية، حيث استطاع الفنانون العرب أن يتحرروا من الهيمنة الغربية على الذوق والأسلوب الفني، وانطلقوا نحو تأسيس خطاب فني يعكس ثقافتهم وتجاربهم الذاتية، وأصبح للفن التشكيلي المعاصر في العالم العربي طابعه الخاص، وبرزت أعمال تميزت بالأصالة والعمق، إذ استخدم الفنانون خامات وأساليب جديدة تعكس مزيجًا من التراث المحلي والتقنيات الحديثة.

سمات ومزايا الفن التشكيلي المعاصر

يمتاز الفن التشكيلي المعاصر بمجموعة من الخصائص التي تجعله من أبرز الفنون البصرية وأكثرها قدرة على استيعاب التعدد والتنوع؛ فهو ليس مجرد أسلوب فني، بل يُعد نافذة مفتوحة على أعماق النفس البشرية ومجالًا واسعًا للتجريب والتعبير بعيدًا عن القوالب التقليدية، ومن أبرز مزاياه:

حرية التعبير

يمنح هذا الفن للفنان فرصةً استثنائية لتفريغ شحناته الفكرية والعاطفية، ويحوّل فوضى المشاعر والضغوط اليومية إلى تكوين بصري نابض بالحياة؛ إذ يترجم الأحاسيس إلى لون وخط ومساحة دون إلزام الفنان بشرح مباشر أو تفسير منطقي.

عدم التقيد بالأنماط

لا يقيد الفن التشكيلي المعاصر الفنان بأي أنماط صارمة أو قواعد تقليدية؛ بل يسمح له بحرية التعبير التام عن أفكاره ومشاعره ورؤيته للعالم بعيدًا عن المقاييس الكلاسيكية.

الرمزية والغموض

يتسم هذا الفن بدرجة من الغموض تُلزم المشاهد بتأمّل عميق، مما يجعل تفسيره مهمة تتطلب رؤية نقدية متعمّقة، وهنا يظهر دور النقّاد في تفكيك الرموز واستكشاف المعاني المختبئة بين الخطوط والألوان.

التنوّع في الأساليب والرسائل

يعتمد الفن التشكيلي المعاصر على توظيف رموزٍ مأخوذة من الطبيعة أو الحياة اليومية، وقد تبدو هذه الرموز بسيطةً للوهلة الأولى، لكنها تحمل دلالات عميقة لدى الفنان.

تعدد وجهات النظر

لا يُلزم هذا الفن الفنان أو المشاهد بفكرة واحدة أو أسلوب موحّد؛ بل يسمح بتقديم الفكرة بطرق وأساليب متعدّدة، مما يفتح فسحة للتأمّل من وجهات نظر مختلفة، ويمنح كل متلقي حرية تكوين تفسيره الخاص.

لا حدود للخيال

في هذا النوع من الفن، لا حدود لما يمكن تخيله أو تنفيذه؛ فالخيال هو الأداة الأولى والأهم، مما يجعل الفن التشكيلي المعاصر مساحة مفتوحة تتجاوز الواقع إلى احتمالات لا تُحصى.