اخر الاخبار

باكستان التي رأيت.. من ذاكرة الطفولة في السعودية إلى خضرة تلال مارقلا – أخبار السعودية

حين حطّت قدمي في إسلام أباد قبل عام، لم أشعر أنني أهاجر إلى آخر الأرض؛ كان في الهواء شيء مألوف، وفي الوجوه ظلّ معرفةٍ قديمة.

لقد عرفنا الباكستانيين منذ طفولتنا في السعودية: عمّالًا مهرة، أطباء ومهندسين، معلمين وتُجّارًا، وسائقي حافلات ومسؤولي صيانة.

عرفناهم قبل أن نعرف الجغرافيا؛ شركاء رزق وجيرة وصلاة وصلاح.

كانوا ينهضون مع الفجر إلى أعمالهم بجدّ صبور، وابتسامة تُشبه دعاء الأمهات.

لذلك، لم تكن الغربة في باكستان غربة قلب؛ كانت فقط انتقالاً من معرفة قديمة إلى معايشة أجمل.

11

إسلام أباد…مدينة تُرتّب الخضرة على مهل..

إسلام آباد مدينةٌ تكتب نفسها بالحرف الأخضر: ممراتٌ مشجّرة، هواءٌ نظيف، انسيابٌ هادئ للشوارع، وجبال مارجلا تُشرف، كأنها أمٌّ تُسدل ظلّها على أبنائها. بعد أمطار المساء، يفوح التراب هنا برائحة تشبه بدايات جديدة؛ ومن مصلّى صغير إلى مسجد الملك فيصل المهيب -الذي يحمل اسم ملك أحبّ باكستان وأحبّته – تشعر بأن الروح وجدت مرساها.

على ضفاف البحيرات، وفي الأسواق الليلية، ترى مزيجاً رائقاً من التنظيم والدفء؛ نظام يستقبل إنسانيتك، ودفء يحفظ مكانك.

12

أهل البلد.. ضيافة تتقن لغات القلوب

لا تحتاج إلى قاموس كي تفهم باكستانياً يقول لك وهو يمدّ لك كوب الشاي: «خوش آمدید». الضيافة هنا (مِهْمان نوازی) ليست عادة اجتماعية فحسب؛ إنها فلسفةُ عيش.

اقراء ايضا  أفضل أفكار مشاريع صغيرة مربحة جدا وغير مكلفة للنساء

يفرحون بالضيف كما يفرح الربيع بمطرٍ موعود، ويتقبّلون الآخر بلا تكلّف، كأن التنوع جزءٌ من تكوينهم. في المدارس والجامعات والمقاهي، وفي الأسواق والحدائق، يدهشك هذا المزاج الاجتماعي الذي يجمع بين الوقار واللطافة، بين المحافظة والانفتاح، بين الفخر بالتقاليد والقدرة على الإصغاء للجديد.

مدنٌ تتكامل.. تاريخ يعمل للمستقبل

ثمّة باكستان أخرى تكتشفها كلما اتّسعت الرحلة: لاهور بحدائقها ومساجدها وتاريخها الثقافي الذي لا يكلّ؛ كراتشي بدفء بحرها وإيقاعها الاقتصادي الصاخب؛ بيشاور بأبوابها على التاريخ؛ كويته بصلابة الجبال؛ وسوات، جلجت، وهُنزة بديعات الطبيعة التي تبدو كأنها خرجت للتو من مرسم خالقٍ كريم.

هذا التنوع الجغرافي والثقافي لا ينقض وحدة البلاد، بل يمنحها أسباب القوة: شعبٌ واحدٌ يتكلم بلهجات جمال متعددة.

13

من إقبال إلى فيض..الشعر كراية هوية

أفكّر وأنا أتعرف إلى باكستان من داخلها: كيف استطاع شاعرٌ واحد أن يُصبح مرآةَ أمة؟

محمد إقبال لم يكن شاعراً فحسب؛ كان بوصلة كرامة وثقة بالذات (خُودي) ونداء مستمرّ إلى النهوض.

في قصائده، يعلّمك «الصقر» أن لا يرضى بالدون، وأن يعلو بجناحيه حيث تتسع الرؤية.

وبعده، يأتي فيض أحمد فيض ليضع على الوجع قميص أمل، ويحوّل اللغة إلى عزاء جميل وإصرار نبيل.

ومن ثمّ نساءُ الشعر كپروين شاكر، يسكبن على المدينة عطر البنفسج وكبرياء الرقة. أدركتُ هنا أن الشعر ليس زينة الكلام، بل ذاكرةُ الأمة ووجدانُها، وأن الثقافة الباكستانية، من حِكم بوله شاه إلى أنغام القوّالي، تحرس الروح فيما العالم يشتدّ مادّة وخفة.

14

العمل بصمت.. والتنمية بلا ضجيج

يُقال إن التنمية تُقاس بالأرقام. في باكستان رأيت وجهاً آخر لها: تُقاس أيضاً بسلوك الناس.

النظافة في الحدائق العامة، احترام الصفّ، عزمُ الطلاب في الجامعات، ابتكار الشباب في المشروعات الصغيرة، وحرص الأسر على التعليم بوصفه حبل النجاة إلى الغد.

اقراء ايضا  نائب وزير الحج والعمرة يشيد بنجاحات حج 1446هـ

لمستُ تقدّماً هادئاً وعمليّاً: تحديثاً للبنية، تحسيناً للخدمات، ورغبة صادقة في أن تكون الدولة بحجم طموح شعبها. هنا لا يصنع الإعلام الصورة وحده؛ بل يصنعها الناس في تفاصيل أيامهم.

الأخوّة السعودية الباكستانية.. جسرٌ أقدم من الأخبار

العلاقات بين السعودية وباكستان ليست خبراً موسمياً؛ إنها سيرةٌ طويلة من المودة والتكافل.

ملايين الباكستانيين تركوا بصماتهم في نهضة المملكة، وتعلّم منا جيلٌ كامل معنى «السند» حين يكون الجار أخاً. وفي الحج والعمرة تذوب الفواصل: يتجاور الحاج الباكستاني مع الحاج السعودي في صفٍّ واحد، وتصبح اللغات كلها لهجة تكبير.

هذا الرصيد الإنساني ليس للذكرى فقط؛ إنه دعوة إلى توسيع الشراكات في التعليم والاقتصاد والثقافة والبحث العلمي، وبناء مشاريع تجعل من شباب البلدين فريقاً واحداً في سباق المستقبل.

تحية إجلال..للشعب والدولة والجيش

ليس من الإنصاف أن نتحدث عن باكستان ولا نذكر صلابة من يحرسون أمنها ويقفون في الصفوف الأولى عند الكوارث. لقد رأيت صوراً ووقائع لجنود وضباط يرفعون أثقال الواجب بصمت وإقدام؛ يشاركون في إغاثة المنكوبين، ويُعيدون للجبال والأنهار طمأنينتها بعد الفيضانات، ويتركون في القرى البعيدة أثراً من الانضباط والرحمة.

تحية تقدير للشعب الذي يقف وراءهم، وللحكومة التي تعمل على توازن صعب بين متطلبات الأمن والتنمية، وللجيش الباكستاني العظيم الذي يختزل في بزّته العسكرية كبرياء وطن وحلم أمة.

خاتمة.. ما بين مطر وشاهي ودعاء

باكستان التي رأيتُها ليست عنواناً في نشرة أخبار، بل رائحة مطر على طريق أخضر، وكوب شاهي بالهيل يوزّعه صاحبُ متجر صغير كأنه يوزّع من قلبه، وابتسامةُ أطفال يذهبون إلى مدارسهم حاملين حقائب أخفَّ من أحلامهم بقليل.

هي بلدٌ يتعلّم من أوجاعه، ويحوّل صلابته إلى مرونة، وتديّنه إلى أخلاق، وتعدده إلى أنغام متناسقة.

اقراء ايضا  ترجمة طبية معتمدة | مكتب ترجمة طبية معتمد بالقاهرة

أكتب هذا وأنا سعودي وجد بيته الثاني هنا، لا مجاملة ولا ادّعاء، بل وفاء لمعنى «الأخوّة» حين تتجاوز السياسة إلى جوهر الإنسان.

شكري لكل يد باكستانية صافحتني منذ عام، لكل معلّم وطالب وزميل ومسؤول فتح لي باباً أو قدّم لي نصيحة.

شكري لهذه البلاد التي تُذكّرنا -نحن أبناء الصحراء- بأن الخضرة قد تكون خُلُقاً قبل أن تكون مشهداً.

إنني أراهن على تعليم أمتن وتبادل ثقافي أوسع، وعلى مشاريع مشتركة تجعل من الذكاء الاصطناعي والابتكار الزراعي والطاقة النظيفة وعلوم المياه ساحات تعاون حقيقية.

ولعلّنا، نحن الذين نكتب اليوم، نترك لأبنائنا جملة بسيطة يفتخرون بها غداً:

كنّا جيلاً بنى صداقة تُشبه الجسر.. متيناً، مفتوحاً، وآمناً للعبور في الاتجاهين.


باكستان التي رأيت.. من ذاكرة الطفولة في السعودية إلى خضرة تلال مارقلا – أخبار السعودية المصدر:

زر الذهاب إلى الأعلى
إنضم لقناتنا على تيليجرام