عائلات سودانية تُعيد دفن أبنائها مع نقل رفاتهم من مقابر عشوائية

ينبش متطوعو «الهلال الأحمر» السوداني قبوراً عشوائية في حي الأزهري جنوب الخرطوم، حفرتها عائلات لدفن أقاربهم الذين قضوا خلال الحرب، في وقت حال فيه القصف الجوي والمعارك دون دفنهم في المقابر الرسمية.
وبعدما دفنوا على عجل في باحات المنازل والمدارس والساحات العامة، أتيحت للعديد من العائلات أخيراً إقامة مراسم وداع لائقة لنحو ألفين من أفرادها لقوا حتفهم خلال الحرب المتواصلة منذ أبريل (نيسان) 2023.
واستفادت العائلات ومتطوعو «الهلال الأحمر» من الهدوء الذي باتت الخرطوم تنعم به نسبياً منذ تمكن الجيش في يونيو (حزيران) من إخراج «قوات الدعم السريع» منها، لإخراج رفات الضحايا من المقابر العشوائية ونقلها.
في حي الأزهري، يحمل متطوعون يرتدون بزات بيضاء وقفازات حمراء وأقنعة واقية، رُفوشاً لإزالة طبقات التراب عن رفاتٍ دُفنت كيفما اتفق. ويرفع هؤلاء الجثث بعناية، قبل وضعها في أكياس جثث تحمل بطاقات تعريف، ووضعها في شاحنات صغيرة ستحملها إلى مقبرة الأندلس على بُعد نحو 10 كيلومترات.
أما الجثث التي لم يتعرف عليها أحد، فيقوم المتطوعون بتمييزها بملصقات مختلفة والاحتفاظ ببياناتها.
ويقول هشام زين العابدين، رئيس قطاع الطب الشرعي في الخرطوم، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، إن فريقه عثر على 307 قبور عشوائية في حي الأزهري كانت «موجودة أمام البيوت وفي المساجد والمدارس»، مشيراً إلى أن ذويهم لم يتمكنوا من دفنهم على نحو لائق أو إقامة جنازات، في ظل المعارك بين طرفي الحرب.
وبُعيد اندلاع الحرب في أبريل (نيسان) 2023، سيطرت «قوات الدعم السريع» على مدن رئيسية بينها الخرطوم.
«لم نجد مكاناً لدفنها»
في مساحة ترابية واسعة، تنتشر فيها بقع من العشب الأخضر، تراقب جواهر آدم بحزن عميق متطوعي «الهلال الأحمر» وهم يعملون بمساعدة جرافتين على نبش قبر، يضم رفات ابنتها التي قضت خلال المعارك. وتقول جواهر، والدموع تنهمر من عينيها، في حديث لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كان عمرها 12 عاماً».
وتُشير إلى أن ابنتها كانت خارج المنزل لشراء حذاء جديد حين قتلت جرّاء قصف لم تُحدد مصدره، مضيفة: «لم نجد مكاناً لدفنها، فدفناها في الحي».
تختبر جواهر للمرة الثانية مشاعر دفن ابنتها «ولكن هذه المرة بكرامة»، مضيفة: «الأمر مؤلم ولكن إكرام الميت دفنه».
وأسفرت الحرب التي اندلعت بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان و«قوات الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بـ«حميدتي»، عن مقتل عشرات الآلاف من السودانيين.
وفي حين أشار المبعوث الأميركي السابق، توم بيرييلو، إلى أن ما لا يقل عن 150 ألف شخص قتلوا خلال العام الأول من المعارك، يبقى تحديد حصيلة دقيقة شبه مستحيل.
ووقعت العديد من المعارك الدامية في أحياء مكتظة بالسكان، في غياب بنى تحتية صحية أو مشافٍ لمعالجة الجرحى أو إجراء تعداد دقيق للجثث.
وحسب كلية لندن للصحة العامة والطب الاستوائي، سجَّلت الوفيات في الخرطوم خلال الأشهر الـ14 الأولى من الحرب زيادة نسبتها 50 في المائة، وأحصت الكلية 61 ألف وفاة خلال تلك الفترة، بينها 26 ألفاً بسبب أعمال العنف.
مقبرة إلى مدرسة
حين دفن السودانيون أقاربهم في المقبرة وسط حي الأزهري، وضعت مكان كل جثة قطعة خشبية أو شاهد قبر موقت أو أحجار نقشت عليها أسماؤهم.
وتمكّن «الهلال الأحمر» حتى الآن من انتشال نحو ألفي جثة في العاصمة الخرطوم، ويُقدّر أن المقابر العشوائية المنتشرة في المدينة تحتوي على ما لا يقل عن عشرة آلاف رفات.
وبينما تتابع العديد من الأمهات بحزن وعيون دامعة نقل رفات أقاربهن من المقبرة العشوائية في حي الأزهري، لا تزال آلاف غيرهن يجهلن مصير أبنائهن.
خلال العام الماضي، أحصت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 8 آلاف مفقود في السودان، مشددة على أن ذلك يبقى «الجزء الظاهر من جبل الجليد، من إجمالي حالات المفقودين».
وقبل الحرب، كان يسكن الخرطوم نحو 9 ملايين نسمة، نزح منهم 3 ملايين ونصف مليون على الأقل جرّاء المعارك، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة التي تتوقع عودة مليوني شخص إلى الخرطوم قبل نهاية العام الحالي.
إلا أن ذلك يتوقف على استقرار الوضع الأمني وعودة البنى التحتية للعمل، إذ ما زالت معظم مناطق العاصمة بلا كهرباء أو مياه نظيفة، في حين تحوّلت المدارس والمستشفيات إلى حطام.
بعد انتشال الجثث من حي الأزهري، سيتمكن المسؤولون المحليون من المُضي في مشروع بناء المدرسة، التي كان مقرراً إنشاؤها في تلك الساحة، حسب يوسف محمد الأمين، المدير التنفيذي لمحلية جبل أولياء جنوب الخرطوم.
ويوضح، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، «إن شاء الله سكان الحي سينشئون فيه مدارس لتعليم أبنائهم. الرفات التي كانت موجودة في الميدان كانت تعوق بناء المدرسة».
عائلات سودانية تُعيد دفن أبنائها مع نقل رفاتهم من مقابر عشوائية المصدر: