اخر الاخبار

ناتاليا كانيم: إرث أممي من النضال لأجل الفتيات اللائي تخلى عنهن العالم

إنها تتذكر، مرارا وتكرارا، صورة واحدة: صورة طفلة في العاشرة من عمرها، تقف على عتبة المراهقة، مستقبلها يتسم بعدم اليقين، وحقوقها لا تزال موضع شك كبير. تتساءل الدكتورة كانيم عن مصير تلك الفتاة فتقول: “هل ستتمكن من إتمام دراستها والتخرج والمضي قدماً في حياتها؟ أم أن طريقها سيُعيقه الزواج المبكر، وختان الإناث، والفقر المدقع؟”

أصبح ذلك التساؤل المصيري وتلك الفتاة – التي ترمز لملايين الأطفال حول العالم الذين يواجهون مستقبلا محفوفا بالمخاطر – حجر الزاوية في ولاية الدكتورة كانيم التي استمرت قرابة ثماني سنوات كمديرة تنفيذية لوكالة الأمم المتحدة المعنية بالصحة الجنسية والإنجابية، صندوق الأمم المتحدة للسكان.

منذ أيامها الأولى في العمل الميداني في شرق أفريقيا وحتى إشرافها على وكالة تبلغ ميزانيتها 1.7 مليار دولار وتعمل في أكثر من 150 دولة، قادت الدكتورة كانيم صندوق الأمم المتحدة للسكان خلال تحولات عالمية، ورياح سياسية معاكسة، ومقاومة أيديولوجية. الأهم من كل ذلك، أنها قادت ثورة عظيمة في حياة ملايين النساء والفتيات.

هذا الشهر، ستتنحى عن منصبها قبل الموعد المحدد. وفي خطاب مسجل بالفيديو ألقته في وقت سابق من هذا العام، قالت السيدة البالغة من العمر 70 عاما لموظفيها – الذين يبلغ عددهم 5,000 موظف: “حان وقت تسليم الراية. لقد تعهدت ببذل كل ما في وسعي للحفاظ على وضع صندوق الأمم المتحدة للسكان كي يتمكن من مواصلة تحقيق إنجازات عظيمة”.

المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، ناتاليا كانم (يمين)، خلال زيارة إلى السودان في آذار/مارس 2021.

الجذور والصعود إلى القمة

وُلدت الدكتورة كانيم في بنما، وتدربت كطبيبة، وانضمت إلى صندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2014 بعد مسيرة مهنية في مجال العمل الخيري. وقد قادها قرارها بخدمة “الهدف النبيل للأمم المتحدة” إلى تنزانيا، حيث أذهلها تفاتي الموظفين الميدانيين. وقالت لأخبار الأمم المتحدة: “نحن نثبت جدارتنا حقا على مستوى البلدان”.

اقراء ايضا  الرئيس اللبناني يغادر الرياض وفي مقدمة مودعيه نائب أمير المنطقة

لكن المهمة لم تكن سهلة. في عام 2017، عندما تولت الدكتورة كانيم زمام الأمور في الوكالة، ورثت منظمة تُعاني من تراجع في الرؤية، وتمويل غير مستقر، ومقاومة مستمرة من الجهات المحافظة. ومع ذلك، نما صندوق الأمم المتحدة للسكان – ليس فقط في الميزانية، بل في مكانته أيضا.

وعن ذلك تقول: “عندما توليتُ المنصب، كان السرد هو: نحن منظمة صغيرة، محاصرة، ولا أحد يفهم ما نفعله. الآن، أعتقد أن الأمر أصبح أوضح”.

جاء هذا الوضوح جزئيا بسبب مما تُسميه الدكتورة كانيم “القيادة الفكرية”. سواء من خلال تحدي المفاهيم الخاطئة حول الخصوبة أو مواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تغذيه التكنولوجيا، دفعت الدكتورة كانيم صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى صدارة الخطاب العالمي. وأوضحت قائلة: “نحن موجودون في سوق الأفكار. وعلينا أن نقول الحقيقة بطريقة مقنعة بما يكفي لكي نكسب الحلفاء الذين تحتاجهم هذه الحركة.”

تحت قيادتها، درّبت الوكالة مئات الآلاف من القابلات، ووزّعت المليارات من وسائل منع الحمل، ووسّعت نطاق عملياتها الإنسانية للوصول إلى النساء والفتيات في أكثر البيئات هشاشة – من مخيمات الروهينجا في كوكس بازار إلى أوكرانيا التي مزقتها الحرب، وهايتي التي اجتاحها الكوليرا.

لم يكن وجود صندوق الأمم المتحدة للسكان في مناطق الأزمات لوجستيا فحسب، بل رمزيا أيضا. ففي السودان وسوريا وغزة، يمكن لخيمة بسيطة مليئة بالفوط الصحية وبطانية وقطعة صابون أن تشكل ملاذا آمنا. وقالت: “إنها تمثّل الراحة التي تحتاجها المرأة في أوقات الأزمات. ولهذا السبب نحن نُطلق على المستلزمات التي تحتاجها النساء اسم ‘مجموعات الكرامة'”.

المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، ناتاليا كانيم (وسط الصورة)، تلتقي بالشباب في فعالية في كوتونو، بنين.

© UNFPA/Abdoulatif Keita

تحويل دفة الحوار

إلى جانب تقديم الخدمات، ارتقت الدكتورة كانيم بدور صندوق الأمم المتحدة للسكان كمركز فكري في عالم يشوبه الاستقطاب. فقد قادت الوكالة للدخول في حوارات عامة صعبة – حول حمل المراهقات، والقلق المناخي، ومعدلات الخصوبة، والتحرش عبر الإنترنت – بإصرار ثابت على الحقوق.

اقراء ايضا  جازان.. تعليق التدريب الحضوري بمنشآت التدريب التقني والمهني غدًا

امتدت هذه القيادة إلى البيانات. ففي عهد الدكتورة كانيم، استثمر صندوق الأمم المتحدة للسكان بكثافة في دعم عمليات التعداد السكاني الوطنية وبناء لوحات معلومات لمساعدة المشرعين على صياغة سياسات الصحة الإنجابية برؤية آنية.

أعاد تقرير حالة سكان العالم لهذا العام – وهو التقرير السنوي المتعمق الذي تنتجه الوكالة حول الاتجاهات الديموغرافية- صياغة الروايات التقليدية حول ما يسمى بالـ “انهيار السكاني” – مشيرا إلى أن العديد من النساء والرجال يؤجلون إنجاب الأطفال ليس بدافع أيديولوجي، بل لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف تربيتهم.

وأشادت الدكتورة كانيم بالشباب الذين يعزون اختيارهم لعدم إنجاب الأطفال إلى تفاقم أزمة المناخ، إلا أنها أكدت أن هذا ليس ما تُظهره البيانات. وأوضحت قائلة: “إن معدل الخصوبة العالمي البديل لا يهدد الكوكب. الحقائق تقول إنه يمكنك إنجاب أي عدد من الأطفال بقدر ما تستطيع تحمل تكاليف تربيتهم”.

المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، ناتاليا كانيم (وسط الصورة) تزور سوق ماماس في بورت فيلا، فانواتو.

بوصلة الحقوق في زمن مضطرب

تزامنت فترة ولاية الدكتورة كانيم مع تصاعد الهجمات على الحقوق الإنجابية، وتصاعد النزعات القومية، وتزايد التشكيك في المؤسسات متعددة الأطراف. واجهت سنوات من تخفيضات التمويل الأمريكي – بما في ذلك في ظل الإدارة الحالية – حتى مع تزايد الطلب على خدمات صندوق الأمم المتحدة للسكان.

وأشارت إلى أن الصندوق “لديه أموال أكثر من أي وقت مضى، لكنها لن تكون كافية أبدا لوقف سيل الاحتياجات”. الموارد وحدها لن تضمن مستقبل الوكالة – فالمصداقية والمثابرة لا يقلان أهمية. 

وحذرت قائلة: “لقد أصبح النظام متعدد الأطراف نفسه موضع شك كبير في وقت تشتد فيه الحاجة إلى هذا النظام الآن أكثر من أي وقت مضى. علينا أن نثبت جدارتنا كل يوم. وعندما نرتكب أخطاء، علينا أن ننهض ونصححها ونبحث عن شركاء يكونون حلفاء لنا”.

اقراء ايضا  زيارات صحة البيئة تغيب عن 6 مناطق

ومن بين هؤلاء الشركاء القطاع الخاص. ففي عام 2023، تعاون صندوق الأمم المتحدة للسكان مع شركات التكنولوجيا لإطلاق سند تأثير التنمية في كينيا، مقدما خدمات الصحة الجنسية عبر الهاتف المحمول للوقاية من حمل المراهقات والإصابات الجديدة بفيروس نقص المناعة البشرية بين المراهقات.

التقدم يقاس بتغيير العقليات

لطالما عمل صندوق الأمم المتحدة للسكان على إنهاء الممارسات الضارة مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وزواج الأطفال. وفي عهد الدكتورة كانيم، أصبح هذا العمل مرتبطا بتغيير العقليات بقدر ارتباطه بتغيير القوانين.

وعندما سُئلت عما إذا كان التقدم حقيقيا، أجابت: “نعم، بالتأكيد. كان من المهم جدا رؤية القادة الدينيين والزعماء التقليديين يقفون ضد ممارسات معينة… والعمل مع الأنظمة المدرسية حتى تتمكن الفتيات أنفسهن من فهم المخاطر واتخاذ قرارات أفضل”.

أقرت بأن جائحة كـوفيد-19 كانت بمثابة انتكاسة. فمع إغلاق المدارس، سارعت بعض المجتمعات إلى تزويج الفتيات. ولكن في العديد من البلدان – بما في ذلك إندونيسيا المكتظة بالسكان – شهد الصندوق تراجعا في هذه الممارسة، ويعود الفضل في ذلك جزئيا إلى المناصرين الشباب الذين يرفعون الصوت ضد هذه الممارسة من داخل مجتمعاتهم.

الدكتورة ناتاليا كانيم، مديرة صندوق الأمم المتحدة للسكان خلال حوار مع ميتا هوسالي نائبة مدير قسم الأخبار في الأمم المتحدة.

الجيل القادم – الفصل التالي

بالنظر إلى المستقبل، لم تُركز الدكتورة كانيم على الغموض الذي يواجه الصندوق، بل تحدثت عن الإمكانيات. قالت: “لقد غيّرنا وحدّثنا أنفسنا. يمتلك  صندوق الأمم المتحدة للسكان إمكانيات لا حدود لها”.

يتضمن مستقبلها ما تسميه “إجازة قصيرة” لتقضي المزيد من الوقت مع الموسيقى وعائلتها، وأخيرا لنفسها. لكنها لن تبقى بعيدة عن العمل طويلا، حيث قالت: “أعلم أن شغفي بقضايا النساء والفتيات لن يتراجع. لقد كان عملا نابعا من حب”.

وفي كلمتها الوداعية، عادت الدكتورة كانيم مجددا إلى الفتاة التي ذكرتها في بداية هذه القصة، وقالت: “عندما تنجح تلك الفتاة ذات العشر سنوات، ينجح الجميع ويكون العالم أفضل”.


ناتاليا كانيم: إرث أممي من النضال لأجل الفتيات اللائي تخلى عنهن العالم المصدر:

زر الذهاب إلى الأعلى
إنضم لقناتنا على تيليجرام