نزوات قانونية

قال غيلان الدمشقي «عقول الناس على قدر زمانهم»، وهذا يعني أن للعقول مكيالًا اسمه الزمن، كل عصر يبدل درجة هذا المكيال إما يزيده حرارة فيغلي إيقاعه، أو يسكبه على مهل فيطول الإحساس به.وللزمن ميزانان: ما تقيسه الساعة وما يحس في النفس. لنتخيل ميزانًا في ساحة مفتوحة: على كفة منه تجلس الجماعة وخططها الكبرى، وعلى الكفة الأخرى يجلس الفرد بما فيه من حيرة وجرأة. يتأرجح مؤشر الميزان بين نحن وأنا، بين طريق مرسوم وخطوة وحيدة تريد أن تعاكسه، ثم يحدث في الميزان شيء خفي: ميل ضئيل بين المتوازنين، كنغمة صغيرة شطحت فغيرت مقام الأغنية دون أن يشعر المتلقي. والمراد أنه من هذا الميل يولد اتجاه جديد.يجلس- إذن- على كفتي الميزان الجماعة والفرد، ومن نظر من جانب الجماعة رأى أن التاريخ خط مستقيم للتطور والتقدم، وهذا يصطدم بكل التحولات التي تثبت عشوائية القفزات المفاجئة، ومن نظر من جانب الفرد رأى التاريخ نزوات متناثرة بلا قانون، لكنه سرعان ما يصطدم بصرامة قوانين الفيزياء، فالعالم الكمي موسيقى احتمالات خفية، وليس فوضى سائبة. لهذا يمكن أن يأتي غيلان دمشقي جديد فيقترح أن تكون حركة الميزان مركبة يشترك فيها الفرد بخياره وشطحاته، والوعي الجمعي بقوانينه؟ يعني أن الفرد يشطح وقانون الطفرة (الجماعة) يرسو بالاتجاه. شطحة تنطلق من شخص بعينه، لكنها ما تلبث أن تقفز فتأخذ شكل قاعدة يتبعها الناس، وهذا أشبه بما يسميه علم الاجتماع نموذج العتبة وهو شرارة فردية إذا جاوزت حدًا معينًا تبعتها شبكة كاملة، كما يحدث في قاعة يصفق فيها شخص واحد فيلتحق به ثان وثالث، ثم يعم التصفيق في القاعة. وعلى ذلك فالشطحة والطفرة يمكن أن تكونا كلمة واحدة ننحتها هي «الشطفرة»، وتكون مفسرة لحركة الأفراد العبثية التي تتحرك ضمن قوانين، ولعل أقرب استعارة لهذا المعنى- من مختبرات الفيزياء- هي القفزة الكمومية أي انتقال الإلكترون من حال إلى حال بلا مسار متدرج مرئي، والأعجب في هذا أن العلماء استطاعوا مؤخرًا أن يلتقطوا البوادر التي تسبق القفزة وأن يتدخلوا لعكسها، وكأن لكل قفزة ومضة سرية تومض قبل أن تتحقق. وهكذا أيضًا تبدو «الشطفرة» في التاريخ والفكر.الشطحة في أصلها استرسال وانفلات، ولهذا اختارتها الصوفية للتعبير عن هيجان الغيبة والفناء، وأما الطفرة فهي قفزة خارقة للمنطق لكنها قانونية، ومعناها الدقيق انتقال المتحرك من جزء من المسافة إلى آخر دون المرور بما بينهما، وإذا جمعنا المصطلحين نشأ مفهوم «الشطفرة»، وهو حركة تجمع الفرد في فرادته مع كونه كائنًا تاريخيًا في الوقت نفسه. الفرد يشطح أي ينفلت بخياله واختياره لكن قانون الطفرة يقيد هذا الانفلات باتجاه ما، فيظهر كأن الزمن نفسه شيء ملموس، مع أنه- في نظر الفيزياء- مجرد أثر يظهر لأن العالم من حولنا يميل مع الوقت إلى المزيد من العشوائية، أو ما يسميه العلماء بالإنتروبيا، فتأمل- مثلا- مكعب ثلج يذوب في كأس، لترى أن ذوبانه ليس بسبب عقارب ساعة خفية، بل لأن النظام المتماسك للجليد ينفلت إلى فوضى أكثر، ومن هنا جاءنا شعور أن الزمن يتحرك إلى الإمام.التفاتة:«الشطفرة» تساعدنا على فهم لماذا أخطأ كثير من المستشرقين قراءة ابن خلدون، فقد رأوا في مقدمته جمعًا بين منهجين متباينين؛ فهو من جهة يجعل التاريخ علمًا دقيقًا قائمًا على النظر والتحقيق والتعليل، ومن جهة أخرى يجعله عزيز المذهب شريف الغاية، ولم يفطنوا إلى أن هذا التوتر نفسه هو جوهر النظر الخلدوني: الفرد كجزء من حركة التاريخ وقوانينه، والفرد كغاية عزيزة بصفته يأتي يوم القيامة فردًا.