نافذة على روح الترجمة وألقها – أخبار السعودية

يُشكّل كتاب «حدائق الآخرين: كيف وصل الأدب العالمي طازجاً إلى العربية» للأديب عبدالمحسن يوسف، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر عام 2021، دعوة مفتوحة للتأمل في فعل الترجمة، ليس بوصفه مجرد نقل للكلمات، بل كرحلة فكرية وجمالية تضيء دروب التواصل بين الثقافات. إنّ هذا السفر الماتع، الذي يصفه المؤلف بأنه «نزهة متمهلة في كتب جميلة قرأتها»، يتجاوز حدود المراجعات النقدية التقليدية ليغوص في أعماق التجربة القرائية، مقدماً رؤية ثاقبة حول كيفية تلقّي الأدب العالمي في الوعي العربي.
يُعدّ عنوان الكتاب بحد ذاته مفتاحاً دالاً على مضمونه؛ فـ«حدائق الآخرين» ُيوحي بالانفتاح على عوالم غنية ومتنوعة، هي عوالم الفكر والإبداع الإنساني، بينما عبارة «كيف وصل الأدب العالمي طازجاً إلى العربية» تُبرز الهاجس الأساسي للمؤلف: استكشاف آليات وصول هذه النصوص إلى المتلقي العربي بحيويتها الأصلية، دون أن يفقدها زمن أو لغة بريقها. هذه الطزاجة ليست مجرد جودة شكلية، بل هي جوهر الروح التي يبحث عنها الكاتب في كل نص مترجم، وهي تتجلّى بوضوح في اختياراته وشواهده.
ينطلق المؤلف من فرضية بسيطة لكنها عميقة: القصيدة لا يحتملها إلا من امتلأ بها، والترجمة الحقيقية للشعر لا تتم إلا حين يكون المترجم شاعراً في الأصل، يصغي لما بين السطور، ويكتب بالقلب قبل اللسان.
يُقدم عبدالمحسن يوسف، بأسلوبه السلس والعميق، سجلاً لجُلّ ما أثّر في وعيه وذاكرته القرائية. يستعرض الكتاب باقة من الأسماء الأدبية العالمية، من شعراء وكتّاب قصص وروايات، مروراً بأسماء مثل بابلو ميدينا، يوسف برودسكي، شيمبورسكا، ياروسلاف سيفرت، هرمان هيسه، فلورنس أنطوني، وبيسوا، وصولاً إلى كالفينو، تشيخوف، وكبلنغ، وكيم أدونيزيو، وميشائيل كروغر وغيرهم. هذا التنوع في الاختيارات لا يعكس فقط سعة اطلاع المؤلف، بل يُشير أيضاً إلى رؤيته الشمولية للأدب، فهو يرى أن الأدب الحقيقي لا يعرف حدوداً جغرافية أو زمنية، بل هو جسر يربط بين القلوب والعقول عبر العصور.
ما يُميّز «حدائق الآخرين» هو غوصه في العلاقة بين المترجِم والنص المترجَم. يطرح المؤلف سؤالاً ضمنياً عن السر وراء وصول نص معين إلى القارئ العربي «طازجاً». الإجابة لا تكمن فقط في براعة المترجم اللغوية، بل في قدرته على استيعاب روح النص وثقافته، وفي إيصال هذه الروح إلى لغة أخرى دون تشويه أو تبديل. إنها عملية لا تنفصل عن الذائقة، الحس الفني، والإحساس العميق بالمسؤولية تجاه العمل الأصلي والقارئ على حد سواء.
يُبرز يوسف في دراسته الأدبية هذه، أن الترجمة ليست عملية ميكانيكية، بل هي فعل إبداعي بحد ذاته. المترجم الجيد هو الذي يمتلك القدرة على «إعادة خلق» النص بلغة أخرى، محافظاً على نبرته، إيقاعه، وصورته الشعرية. ولعل هذا ما يفسر اختياراته المتنوعة، التي تُشير إلى أن بعض النصوص قد وجدت طريقها إلى العربية بفضل جهود مترجمين استثنائيين استطاعوا أن يكونوا بمثابة «بستانيين» ماهرين حافظوا على ترف زهور «حدائق الآخرين» في تربة اللغة العربية.
شواهد على جمال الاختيار والترجمة
يقدم عبدالمحسن يوسف نماذج مختارة بعناية فائقة، تُظهر ليس فقط عمق النصوص الأصلية، بل أيضاً جودة الترجمة التي حافظت على جوهرها وجمالها. لنقف عند بعض هذه الشواهد التي تُضيء ذائقة الكاتب:
1. من عالم «يوسف برودسكي»:
يُقدّم المؤلف برودسكي نموذجاً للشاعر العميق الذي تتجاوز كلماته الزمان والمكان. يقول:
«يوسف برودسكي، شاعرٌ لا يكتبُ عن الشغف، بل هو الشغف نفسه، يتجلّى في كلماته. إنه يتحدّث عن الحب بطريقةٍ تُفجّر في الروح مواجع الغياب والأمل».
هذا الوصف التكثيفي لبرودسكي يُشير إلى عمق الرؤية التي يعتمدها المؤلف في تقديم الأدباء، فلا يكتفي بعرض سيرهم الذاتية، بل يلجأ إلى استكشاف جوهر إبداعهم. اختيار برودسكي يُسلّط الضوء على الشعر الفلسفي الذي يتجاوز المباشرة، ويُحلّق في عوالم التأمل الإنساني العميق.
2. إشراقة «الشاعرة البولندية شيمبورسكا»:
يُعرّج الكتاب على الشاعرة البولندية الكبيرة شيمبورسكا، المعروفة بأسلوبها الساخر والحكيم في آن واحد، ويُشير إلى نصٍّ يتسم بالبساطة والعمق:
«قد لا يهمّ إن كان ذلك حدث أم لا. المهم أنك قرأته. لقد خُلقتَ».
هذا المقطع، الذي ينبض بالبساطة الفلسفية، يُلخّص جوهر الإبداع والتلقّي. يوسف يُقدّم هذه الشاهدة ليؤكد أن القراءة فعلٌ يُعيد خلق القارئ، وأن النصوص المترجمة لا تُقدّم مجرد معلومات، بل تُساهم في بناء الوعي والذات. اختيار شيمبورسكا يُبرز التقدير للغة الشعرية التي تستطيع أن تقول الكثير بالقليل، وتُثير التساؤلات الوجودية بلمسة خفيفة.
3. هرمان هيسه و«إذا ما استمرت الحرب»:يُبرز عبدالمحسن يوسف من أعمال هرمان هيسه، الكاتب الذي يغوص في أعماق النفس البشرية والبحث عن الذات، مقطعاً يحمل دلالات عميقة:
«عندما تستمر الحرب، تصبح الأرواح هي الجبهة الحقيقية».
هذه الجملة المُكثّفة تُشير إلى قدرة الأدب على كشف الحقائق الإنسانية العميقة، متجاوزاً الأحداث الظاهرية. اختيار هذا الاقتباس من هيسه، المعروف بفلسفته وتأملاته في الحرب والسلام والروح البشرية، يؤكد أن «حدائق الآخرين» ليست مجرد استعراض لنصوص جميلة، بل هي دعوة للتفكير في القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان.
4. فلورنس أنطوني و«سوداء كليلةِ البارحة»:يختار المؤلف من «سوداء كليلةِ البارحة» لفلورنس أنطوني ما يُجسّد قوة الصورة الشعرية، وربما ما يحمل في طياته إشارة إلى الواقع المعاش أو تجارب إنسانية عميقة:
«كم كانت سوداء كليلةِ البارحة، كجرحٍ مفتوح في الروح».
هذه الصورة البلاغية العميقة تُظهر كيف يمكن للكلمة أن تتحول إلى لوحة فنية، وكيف تستطيع الترجمة الجيدة أن تنقل هذا العمق الشعوري. اختيار هذا النص يُبرز اهتمام المؤلف بالشعر الذي يرسم الصور الذهنية ويُلامس المشاعر الدفينة.
5. بيسوا و«لستُ ذا شأن»:من كتابات فرناندو بيسوا، الشاعر البرتغالي الشهير الذي اشتهر بتعدّد الأسماء المستعارة والشخصيات الأدبية، ينتقي يوسف ما يُعبّر عن التيه الوجودي واللامبالاة الظاهرية:
«لستُ ذا شأن، إلا في تلك اللحظات التي أنسى فيها أنني كذلك».
هذه العبارة، التي تُجسّد الوعي بالذات ونفيها في آن واحد، تُشير إلى عُمق التأمل الفلسفي الذي يقدمه بيسوا. اختيارها من قبل عبدالمحسن يوسف يُبرز إعجابه بالأدب الذي يتناول تعقيدات النفس البشرية وتناقضاتها، ويُلقي الضوء على المترجمين الذين يمتلكون القدرة على نقل هذه الدقائق الفلسفية.
6. كيم أدونيزيو في «خاسران على الناصية»:
يُقدم المؤلف من «خاسران على الناصية» لكيم أدونيزيو، نصّاً يُلامس جانباً من الضعف الإنساني أو اليأس، لكن بلمسة أدبية:
«كلانا خاسران، لكننا نملك هذا الرصيف، وهذه الأضواء الخافتة».
هذا المقطع، الذي يجمع بين المرارة وشيء من التعايش مع الواقع، يُظهر حساسية المؤلف في اختيار النصوص التي تُلامس جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية. يُبرز هذا الاختيار أيضاً، كيف يمكن للنص أن يكون مُكثّفاً في معناه، وأن يُشير إلى حالات نفسية واجتماعية عميقة.
7. ميشائيل كروغر، في «خطوات وظلال»:يستعرض يوسف من عمل ميشائيل كروغر، مقطعاً يثير التأمل في أثر الزمن وذكرياته:
«الخطوات ترحل، والظلال وحدها تبقى تحكي».
هذه الجملة الشعرية، التي تتسم بالعمق الفلسفي، تُشير إلى أن الأثر المادي يزول، بينما تبقى الذاكرة والقصص والأثر المعنوي. اختيار هذا الاقتباس يؤكد ميل الكاتب إلى النصوص التي تتناول الأفكار الوجودية وتُحفّز على التأمل.
من خلال هذه «الإضاءات» المتناثرة في فضاءات عديدة، ينجح عبدالمحسن يوسف في تقديم رؤية متكاملة للأدب العالمي المترجم، ليس ككيان غريب، بل كجزء أصيل من تجربتنا الثقافية. يُشجع الكتاب القارئ على إعادة اكتشاف نصوص أدبية معروفة، والتعرف على أخرى ربما لم تحظَ بالاهتمام الكافي، كل ذلك من خلال عدسة ناقد وقارئ شغوف يرى في كل كلمة مترجمة جسراً يربط بين أرواح البشر على اختلاف ألسنتهم وثقافاتهم.
في الختام، يُعدّ «حدائق الآخرين» احتفاء بالترجمة بوصفها فعلاً حضارياً، وتأكيداً على أن الأدب، في جوهره، لغة كونية تتجاوز الحواجز وتفتح القلوب على مصراعيها لاستقبال «الآخر» بكل جماله وعمقه. هو عملٌ يُلهم القارئ بأن يغدو هو نفسه «بستانياً» يزرع ويحصُد من حدائق الآخرين، لتبقى شجرة الأدب العالمي مُورِقة ومُثمِرة في حدائق اللغة العربية، بفضل الذائقة الرفيعة للمؤلف والمترجمين الذين جلبوا لنا هذه الجواهر.
كاتبة وناقدة لبنانية
أخبار ذات صلة
نافذة على روح الترجمة وألقها – أخبار السعودية المصدر: